الشروق أول صحيفة جزائرية تتسلل إلى الأراضي الصحراوية المحتلة
ثلاثة أيام في ” الداخلة ” مع شعب لا يؤمن إلا بتقرير المصير
.الشروق.2010.08.02
روبورتاج أنور مالك
ثلاثة أيام في ” الداخلة ” مع شعب لا يؤمن إلا بتقرير المصير
.الشروق.2010.08.02
روبورتاج أنور مالك
[b]المخابرات المغربية راقبت كل تحركاتنا و زعمت أنها أرادت حمايتنا
الحلقة الأولى
سمعتُ الكثير جدا عن مدينة الداخلة الصحراوية، وقرأت عنها الأكثر، خاصة حول كفاحها عبر التاريخ وتصديها لكل أنواع الإستعمار والوجود الأجنبي، فضلا عن موقعها الاستراتيجي المسيل للعاب وثرواتها السمكية التي لا يشبهها أي مكان.
وإنطلاقا من هذه الخلفية التي تعشعش في ذاكرتي، كنت دوما أتمنى أن أزورها، وأنعم برؤية كل مدن الصحراء الغربية، وأقف عن قرب على كل الأشياء التي نقرأ عنها، أو أستجلي الحقائق الأخرى المغيّبة التي طواها التعتيم والتجاهل، لحسابات مختلفة يعرف شأنها جيدا أصحاب القرار والفعل هنا وهناك .
عندما تلقيت دعوة للمشاركة في ملتقى وصف بالدولي، والذي يتناول قضية الصحراء الغربية، ومستقبل الأمن الإقليمي في منطقة المتوسطية، فكّرت كثيرا وخاصة أنني أعرف أبعاد وخلفيات القائمين عليه، أو الآخرين الذين يدفعون إليه من وراء الستار، كما أن وجودي ككاتب وصحفي جزائري في مثل هذه النشاطات المخزنية، ستقرأ في إتجاه تدعيم الأطروحة المغربية، بل كنت على يقين أنني سأتعرض للنقد، وربما يطالني التجريح وتلاحقني الإساءة .
لكن إيمانا منّي على أن الوصول للحقيقة والتوغل في أعماق هذه المنطقة يحتاج للصبر والهدوء وسعة الصدر والتجلد والإحتساب، وحتى التمويه وربما التقية أحيانا، فقررت أن ألبّي الدعوة التي أتتني من أنصار الأطروحة المغربية القاضية بالحكم الذاتي للصحراويين تحت السيادة المغربية، وهو الذي ترفضه رفضا قاطعا جبهة البوليساريو، ولا تؤمن إلا بإستفتاء تقرير المصير وتصفية الإستعمار وفق لوائح الأمم المتحدة والشرعية الدولية .
لقد سمعت مرارا وتكرارا من مغاربة يقيمون في الداخل والخارج، من أن أطروحة جبهة تحرير الساقية ووادي الذهب لا توجد على أرض الواقع لدى الصحراويين، بل هي مجرد وهم في خيال هؤلاء، كما أن الأطروحة التي يسمونها “الانفصال” لا أساس لها في كل الصحراء الغربية، والأمر لا يتعدى بعض العناصر التي تنعت بشتى الصفات التي لا يمكن أن أرددها طبعا .
فعندما زرت في 24 أفريل المنصرم مدينة آسا، لم يتسنّ لي على الإطلاق أن أقف على ما وددت معرفته، وإن كان أثناء المداخلات التي تناولت شأن مخيمات اللاجئين في تندوف الجزائرية، لفت إنتباهي وجود أنصار جبهة البوليساريو داخل القاعة، والذين غادروها وهم يرددون شعارات ثورية على مرأى قوات الدرك والأمن الذين غصّ بهم المكان، منها مثلا:”الكفاح الكفاح… السلاح السلاح”، “تحيا الحرية”، “نعم للإستقلال”، “لا للإحتلال المغربي”… الخ، وكان أغلب الأنصار إن لم أقل جلهم لا يتجاوز سنهم الخامسة عشر.
قلت في قرارة نفسي وأنا ألقي مداخلتي حينها، ألا يوجد إلا هؤلاء الأطفال الذين يتحدّون كل شيء في سبيل قضيتهم، وإن كان المنظمون حينها، راحوا يجرمون إستغلال الصبيان والبراءة في قضايا سياسية كبيرة، ولكن لاحقا تبين لي الإستغلال الحقيقي والفظيع الذي يمارسه الجانب المغربي. بل يوجد منهم من زعم أن “نزعة الإنفصال” كما يسمونها لا توجد إلا في أذهان المراهقين، وهو الذي صممت أن أقف عليه بنفسي ومن دون وصاية أو توجيه من أي كان، والحقيقة سنقرأ تفاصيلها في ثنايا هذا التحقيق.
لقد عرف الأمر في ملتقى آسا منعطفا آخرا، عندما طلب شبان ومثقفون التدخل وأحسست أن بعض المنظمين يريدون إقصاءهم ومنعهم من الإدلاء بآرائهم، وهو الذي دفعني إلى أن طلبت وفورا من رئيس الجمعية التي نظمت الندوة، السماح لهم بالتداول على المنصة والتعبير عن آرائهم، وهو الذي وافق عليه من دون أدنى تردد، بل إقتنع عندما قلت له، أن الأمر يتعلق بالصحراويين أنفسهم دون غيرهم، ولا يجوز مطلقا الحجر عليهم أو منعهم من التعبير عن أفكارهم ومواقفهم، أو فرض الحلول عليهم.
أذكر في هذا السياق أن شابا في مقتبل العمر صعد للمنصة، وقدم شهادة عن الجرائم التي ارتكبت في حق الصحراويين من طرف الإحتلال الإسباني وبعدها المغربي، كما طرح عدة أسئلة أحرج بها المنظمين عن المجازر الجماعية، وجاءت لاحقا الردود باهتة لا معنى لها، سوى أنها تغنّت بتلك الشعارات البراقة المعروفة في الأجندة المغربية .
هذا الشاب الصحراوي الذي يؤمن بتقرير مصيره إيمانه بربه ودينه، تقدم منّي وكأنه يريد جسّ نبضي، وسألني عن موقفي من قصف الصحراويين وإبادتهم من طرف القوات المغربية المحتلة، وكان ردي بجملة وواحدة: “هي جريمة ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عنها”، كما أكدت له أن وجودي لا يعني مطلقا مناصرتي للأطروحة المغربية أو شراء ذمتي من المخزن، أو أنه يمكن أن أقف ضد قضيتهم، ففرق شاسع عندي بين أصل القضية ونقدي لواقع بعض أنصارها .
منذ عودتي من آسا التي شهدت ترويجا إعلاميا رهيبا، بل تمّ التركيز على شخصي بصفتي الإعلامية وجرى إبراز جزائريتي بطريقة مشبوهة، وهو الذي أزعجني كثيرا، بالرغم من أنني أفتخر بها إلى حد الهيام، ولكن تحملت أعباء النقد اللاذع الموجه لشخصي على مضض، ولحسابات أفهم أبعادها جيدا . بل الأدهى أن مقص الرقيب طال تصريحاتي الصحفية للقنوات التلفزيونية والإذاعات والصحف المغربية، ونسب لي ما لم أفكر فيه على الإطلاق ولا جال بخاطري .
فضلت الصمت، علّني أتمكن من الوصول إلى أبعد من ذلك، وجاءت فرصة ملتقى الداخلة، وقد تواصلت مع السيد علي فضيل مدير عام “الشروق اليومي” قبل سفري بأيام، واتفقنا على إنجاز تحقيق حول هذه المدينة، التي لا يمكن الوصول إليها من طرف صحف جزائرية مهما كانت الظروف.
وصلني تهديد بالقتل إن تجرّأت على الذهاب إلى الداخلة، والغريب أن صاحبه زعم أنه من جبهة البوليساريو، وقد بعث لي عبر موقعي الشخصي “صوت المنفى”، واستعمل صاحبه خاصية البروكسي التي بينت أنه يراسلني من الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كنت قد بلغت المسؤولين الذين يقفون وراء دعوتي، وقد أظهروا قناعة راسخة من أنه تهديد مفبرك فقط، ولا أساس له على الاطلاق، لأن مدينة الداخلة من أبرز المدن الآمنة والمستقرة، بل توجهت الشكوك إلى منافسين آخرين في النشاط المدني والجمعوي، أو ما يوصف الآن بالدبلوماسية الموازية!!
!!
من باريس إلى الداخلة
إنطلقت من مطار أورلي بالعاصمة الفرنسية باريس يوم الأحد 25 جويلية، في إتجاه الدار البيضاء، على متن الرحلة AT775، وقد ودعت أسرتي وداع من لا تحتمل عودته، خاصة أنني سأحطّ رحالي في مدينة يقال عنها الكثير جدا. تأخرت بنا طائرة الخطوط الملكية المغربية ساعتين كاملتين، لأسباب متعددة ظل طاقمها من حين لآخر، يقدم لنا الإعتذار ويتلو علينا فهرسا من الأعذار، على ماهو خارج عن نطاقهم .
وصلت مطار محمد الخامس بالدار البيضاء على الساعة 19.30 بالتوقيت المحلي، ومنه قفلت مباشرة نحو الطائرة المتوجهة إلى مدينة الداخلة وذلك في الرحلة AT497، لم نتأخر عن الموعد المبرمج للإنطلاق، إلا بحوالي عشرين دقيقة، وصلت المدينة بعد أكثر من ساعتين من الطيران، ووضعت أقدامي لأول مرة في حياتي على أرض الصحراويين، وكان الموقف رهيبا بحق، لا يمكن وصفه أو اختصاره بين كلمات عابرة .
وجدت المشرفين على الملتقى في إنتظاري، وقد تلقّى أمن المطار تعليمات من السلطات تقضي بضرورة تقديم كل التسهيلات للضيوف وعلى رأسهم شخصي المتواضع، ولمست ذلك من خلال المعاملة الإستثنائية جدا، والترحيب الذي فاق حدود التخيّل.
برفقة مشاركة مغربية تترأس جمعية للدفاع عن الطفولة، وعلى متن سيارة تابعة للسلطات الولائية، إتجه بي المنظمون نحو فندق “باب البحر” الذي لا يبتعد كثيرا عن مطار الداخلة، وشدّ إنتباهي وأنا أشق وسط المدينة الكثير من الإنطباعات الأولية، كما شاهدت السكان يقضون وقتهم جماعات وجماعات في الساحة العمومية، ولما سألت سائق السيارة عن هذا الإنطباع، راح مباشرة يشيد بالأمن والإستقرار الذي تعرفه المنطقة، وإسترسل في تعداد فضائل الملك والحكومة التي تبذل - حسبه - كل ما في وسعها من أجل راحتهم!!.
بحسّي الصحفي وبحكم تجربتي العسكرية أدركت ما سنقف عنه لاحقا، من أن المدينة تخضع لإجراءات إستخباراتية معقدة ودقيقة جدا، وأن أنفاس السكان تحصى عليهم وفق مقاربة أمنية صارمة، لحسابات سيحين وقت التحدث عنها في هذه الشهادة.
لقد كنت في الطريق نحو الفندق متلهّفا للغوص في داخل الداخلة الشمّاء، والوصول للوجه الآخر الخفي الذي بلا شك يضرب عليه بشدة، حتى لا يتم كشفه مهما كان الأمر، كما أنني كنت على يقين أن الأمور نسجت وفق ما يخدم الأطروحة المغربية، والوصول إلى عمق الصحراويين الرافضين للوجود المغربي الذين يؤمنون يقينا من أنه إحتلال يجب تصفيته، أمر صعب المنال، ولن أمكّن منه على الإطلاق إلا إذا وضعت خطة ذكية محكمة وواضحة الأهداف والأبعاد .
لقد قررت وقبل أن أضع أقدامي على تراب الداخلة، أن أكون نزيها ومستقلا، لا أبحث إلا عن الحقيقة مهما كلفني الثمن، بل في قرارة نفسي صممت على أن لا أناصر أي أطروحة كانت، حتى أتفادى التحيّز مما سيفقد عملي مصداقيته. بل يجب أن أبحث عن الصحراويين أصحاب الشأن في هذه المعادلة، وألمس تطلعاتهم وأحلامهم وأنقلها للعالم بمهنية عالية، ومن دون تلفيق أو تزوير أو إنحياز أو تعتيم أو حتى مداهنة أو تقية .
قضيت ليلتي في فندق “باب البحر” وأنا أفكر في الكيفية التي أصل فيها إلى حيث لا أكون موجها من طرف أحد، فضلا من كل ذلك أن أكسب قلوب الناس وثقتهم، حتى أتمكن من معرفة ما يدور في أرض الواقع، وأستقصي حيثيات القضية التي لا تزال ترابط مكانها منذ السبعينيات، ومن دون حلحلة ولا إرادة فعلية لأجل رفع المعاناة والغبن عن الصحراويين سواء كانوا في الداخل أو في مخيمات اللجوء .
أحيانا يراودني الشك من أن الصحراويين لن يتحدثوا إليّ، أو قد أتعرض لمكروه من طرفهم، وخاصة أنني جئت للمشاركة في ملتقى ينظمه الجانب المغربي في المنطقة، وفي الوقت نفسه مدعوم من طرف السلطات المحلية والمركزية، ولا يعقل أبدا أن يكون فضاء حرا للبحث عن الحقيقة والذود عن حماها، أو قد يتخيل أحد من أن المحاضرين سيوجهون أدنى نقد حول واقع حقوق الإنسان مثلا .
فقد صورني الإعلام المخزني من أنني أدافع عن ما يوصف بحق المغرب في الصحراء الغربية، بالرغم من أنني لم ولن أفعل ذلك. لقد أحسست بصداع في رأسي، وتضاربت علي الأمور وتداخلت التخمينات وتطايرت الإحتمالات، ولكن قررت أن أخوض المغامرة مهما كانت نتائجها، وسأجعل من محاضرتي البداية الحقيقية للمهمة الصحفية التي جئت من أجلها .
صباح يوم الإثنين 26 جويلية الماضي، وافقت على الخروج للشارع، ولكن كنت برفقة بعض المشرفين على الملتقى، وهم من كانوا يختارون الوجهة والأماكن التي نتحرك نحوها، بحجة توفير الأمن لشخصي، وقد لاحظت عناصر المخابرات في زيّ صحراوي، وآخرون يلبسون البذلات الرياضية يقتفون أثرنا من بعيد، وقد أخبرني أحدهم بأنهم من عناصر الشرطة يسهرون على سلامتي، بعد التهديدات التي وجهت لي .
يتبع..
******************
Dernière édition par Atavisme le Ven 20 Aoû - 23:38, édité 1 fois